طلال سلمان
تسابقت المرجعيات السياسية والدينية في لبنان إلى الاعلان عن اعتذارها عن عدم استقبال المهنئين لمناسبة الأعياد، خصوصاً وانها جاءت متزامنة وجامعة بين الهلال والصليب بما يجعل الكل يشارك في ابتهالات الوحدة الوطنية والدعاء بأن يعجل الله في تحقيقها لاستعادة الصفاء والازدهار والتعويض عن خسائر الحرب الإسرائيلية على لبنان ومن ضمنها الموسم السياحي الموءود!
هذا شعور طيب يقدره المواطنون عالياً، فليس أمراً عادياً ان يشعر «الكبار» بأحزان «الصغار» فيتضامنوا معهم ويلغوا حفلات التهنئة بينما رعاياهم محرومون من نعمة الاعياد.
لكن الاعتذار عن عدم استقبال المهنئين لا يعني الكثير، في بلد بات يفتقد الدولة بسبب من تدمير مؤسساتها أو مسخ ما تبقى منها..
ان لبنان يعيش وضعاً فريداً في بابه في العالم المعاصر،
فرئيس الجمهورية مطعون بشرعيته.. وثمة عريضة وجهت إلى المجلس النيابي بالطعن بها بين الموقعين عليها اسماء لبعض من اعطى صوته لتمديد ولايته (بالقسر والتهديد، كما يقولون اليوم)، واسماء لمن كانوا ـ وما زالوا ـ وزراء في حكومات يرئس هو شخصياً جلسات مجلس وزرائها؟!
.. والحكومة مطعون بشرعيتها.. لا رئيس الجمهورية يقبل ان يضع توقيعه على ما تقره، ولا رئيس المجلس النيابي يسلم بدستوريتها أو ميثاقيتها وهي «البتراء»، ووضعها طريف بل فريد في بابه: يعترف بشرعيتها السفراء المعتمدون لدى رئيس الجمهورية وهم له مقاطعون، ويطعنون عملياً بشرعيته بينما هم باقون بأذنه ويستطيع سحب اعتمادهم، لو شاء..
.. والمجلس النيابي الذي كان هدفاً لاقتحام نواب الأكثرية بعريضة تطالبه بإقرار مشروع لم يصله، بل لم يرسل إليه اصلاً، يتعرض بشخص رئيسه لتهديدات علنية بأن «نواب الأكثرية» قد يجتمعون من دونه وبرئاسة نائبه الذي لا ينوب عنه طالما انه حي يرزق وموجود في البلاد يستقبل الوفود الأجنبية والعربية وبعض وجهاء الأكثرية ذاتها، لاقرار ما تطالب به العريضة التي استبقت مشروعها ومشروعيتها.
أما الدستور فقد بات مضغة في أفواه المثقفين الذين يتزايدون كالفطر، وكثير منهم لم تكن لهم سابق علاقة دراسية بالقانون الدستوري، ولم يعرف عنهم انهم من ورثة الراحلين الكبار من امثال عبد الرزاق السنهوري أو عثمان خليل أو ادمون رباط وغيرهم.
ويمكن القول بأن الدستور صار بين موضوعات الخلاف ولم يعد «مرجعية» ملزمة للاطراف جميعاً، وقد اسقطت عنه هالة الاحترام المفترضة... بل ان المتخاصمين يتراشقون بالنصوص ذاتها بعد ان يعطيها كل طرف المفهوم الذي يخدم غرضه ويعزز حجته في المماحكة وفي نسف الحل المحتمل.
في ظل هذا المناخ المسموم كان طبيعياً أن يتم توظيف المحكمة ذات الطابع الدولي في «الحرب» المحتدمة بين حلفاء الأمس ـ خصوم اليوم، بما يسيء إلى ذكرى الرئيس الشهيد رفيق الحريري. فمعروف ان اللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم، قد اجمعوا على إدانة هذه الجريمة الفظيعة، إذ اعتبروها جريمة ضد الوطن وضد أمنه وسلامته... وهم كانوا وما زالوا يتمنون لو أن قضيته ظلت خارج الصراع السياسي، لا سيما بعد تدرج هذا
الصراع نزولاً إلى مستوى المهاترات والاتهامات المتجنية التي تطال ـ في جملة ما تطال ـ ما كان في خانة «المقدس» عند الرئيس الشهيد.
كأنما لم يعد ثمة ما يجمع بين اللبنانيين،
لكأنهم انتبهوا، فجأة، إلى انهم مختلفون على كل شيء، منذ بداية الخلق، وانهم لا يمكن ان يتفقوا على أي شيء حتى قيام الساعة.
وبالطبع فان هذا ليس صحيحاً، ولكن ضرورات «الحرب» بين الخصوم، تفرض ان يُدمّر أو يُشوّه أو يُمسخ كل ما يجمع اللبنانيين كمواطنين في دولة لها نظام ديموقراطي برلماني، ولها دستور تم تعديله أو تصحيحه على قاعدة اتفاق الطائف، ليعالج وجوه الخلل التي كانت تتسبب في خلخلة النظام بسبب من شعور فئات عريضة من شعبه بالغبن أو بانتفاء معايير العدالة التي تجعل من «الرعايا» مواطنين..
... فهل يكفي الاعتذار عن عدم تقبل التهاني والتبريكات بالاعياد المجيدة، لكي يطمئن اللبنانيون إلى يومهم، وإلى غدهم خصوصاً؟!
في أي حال، شكراً للمرجعيات السياسية والدينية على هذا التعاطف الكريم مع شعبها، ولكن ماذا لو انها سعت ـ بكل قوتها ومن كل قلبها ـ إلى التوافق على المطروح من موضوعات الخلاف، وكلها يمكن بالحد الأدنى من الشعور الوطني والثقة بوعي الشعب ونضجه واحساسه المرهف بالعدالة، ان يتم التفاهم عليها..
عندئذ تكون هذه المرجعيات قد أعطت للبنانيين العيد المرتجى.
لكن ذلك، في ضوء كلام الليل الذي سمعه الناس، يبدو في مرتبة الاحلام.. اقله حتى إشعار آخر.
لكأنه اعتذار من اغتيال العيد!