يعتقد كثيرون أن ثمة مشكلتين أساسيتين لا غير في لبنان: واحدة بطبقات ثلاث، محلية وعربية ودولية، كما وصفها نبيه بري، وأخرى بطبقات متراكبة ومتراكمة بلا بداية ولا نهاية، اسمها وليد جنبلاط. الأولى كبيرة شاملة، تضم كل أزمات لبنان وطوائفه وتاريخه وتعقيداتها، كما كل أبعادها الشرق أوسطية والدولية. والثانية أكبر، إذ تشمل كل شخصيات وليد جنبلاط وهواجسه ومكوناتها.
وينطلق أصحاب هذا الرأي من القصف الجنبلاطي المندلع في 28 الشهر الماضي، عبر اتهام «حزب الله» بالضلوع في جريمة واحدة على الأقل، هي محاولة اغتيال مروان حمادة، في الأول من تشرين الأول، 2004. ولتوضيح خلاصتهم، يعتمد القائلون بمسلمة جنبلاط ـ المشكلة، مقاربات عدة مقارنة، كالآتي:
1 ـ ان الكلام عن علاقة تلك المرسيدس الجانية بضاحية بيروت الجنوبية، قديم جداً. والأهم أنه تحول إلى العلنية أكثر من مرة، وخصوصاً في كلام غير مباشر للوزير الياس المر على إحدى الشاشات، في سياق معلوماته عن التحقيق الذي كان في عهدته بوصفه وزيراً للداخلية آنذاك.
غير أن هذا الكلام الاتهامي ارتبط يومها، كما تؤكد مصادر مطلعة، بكلام ملازم عن شخصين جنبلاطيين متورطين في الجريمة نفسها. وقيل إن شخصية معارضة، أسهمت في حينه في إلقاء الضوء على الشبهة بالشخصين، وتحديد هويتيهما، من عائلة «غ...»، من دون أن تكون لتلك المعطيات أي متابعة، أو أي نفي أو تأكيد.
واللافت أكثر في هذا المجال، أن ثمة قرارات دولية صدرت عن مجلس الأمن وسّعت صلاحية لجنة التحقيق الدولية لتشمل محاولة اغتيال حمادة، فضلاً عن استمرار القضاء اللبناني في وضع يده على الملف. ومع ذلك لم تجد هذه المعلومات الجنبلاطية سبيلها إلى أي من المرجعيتين القضائيتين، لا بل ظلت مادة اتهام موسمي، كما حصل في 28 الشهر الفائت. علماً بأن المصادر المطلعة نفسها تذكر بأن جنبلاط ومن معه، ممكن أن يتهموا بعرقلة التحقيق في الجريمة المذكوة وإخفاء معلومات.
لا، بل يمكن أن يكون هذا السلوك قد أسهم في حصول جريمة كبرى وقعت قبل أسابيع، لناحية علاقة من ذهب ضحيتها، بالمعلومات المتوافرة لدى جنبلاط على جريمة عام 2004.
2 ـ إن كل ما سبق من شبهات ومزاعم، حصل فعلاً قبل التحالف الاستراتيجي الذي أبرمه جنبلاط مع قيادة «حزب الله»، بدءاً من 17 آذار 2005، ودمغه لاحقاً بزيارته طهران في الأسبوع الأخير في نيسان من العام نفسه. وهو التحالف الذي ظل جنبلاط مدافعاً شرساً عنه، ومزايداً في منطوقه، حتى كانون الأول في تلك السنة، مع ما تخلل تلك الفترة من تهديده المسيحيين بالعودة إلى الحرب الأهلية ضدهم في 12 حزيران 2005، فيما لو قدر لميشال عون أن يهزم تحالف «حزب الله» ــ جنبلاط ــ جعجع ــ الجميل ــ بري ــ الحريري، الذي انتصر في انتخابات عاليه ــ بعبدا، معطياً الأكثرية النيابية لثنائي «المستقبل» ــ التقدمي.
3 ــ إن اتهام جنبلاط «حزب الله»، مع ما يعنيه من تسديد ضربة شبه نهائية إلى احتمال التوافق اللبناني على المحكمة الدولية، يذكر بالسلوك الجنبلاطي نفسه في مراحل سابقة مماثلة.
ففي عام 1983 لعب جنبلاط هذا الدور في مواجهة مشروع الحل الذي حاول تلمسه آنذاك أمين الجميل. وعام 1989 كرر الدور نفسه في مواجهة طرح ميشال عون السيادي. وحتى عام 1994، وإزاء بلورة لشبه إرادة لبنانية جامعة في مواجهة جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة، تولى جنبلاط دور رأس الحربة نفسه، عبر تحوله إلى أول من يوجه الاتهام الى سمير جعجع، معطياً الاشارة السورية للهجوم المضاد.
ويعلق أصحاب هذه القراءة على حيثياتها انها لا تعني اطلاقاً ان ثمة عداءً عقائدياً بين جنبلاط وأي من الزعماء المذكورين. بل كل المشكلة في ان سيد قصر المختارة مهجوس تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، بحسابات الدور المرصود للجماعة التي يمثل في الكيان والنظام اللبنانين. وهذا الهجس خاضع اكثر لعاملين اثنين يضاعفان من توتره: أولهما الواقع الاقلوي لتلك الجماعة، وثانيهما رفض جنبلاط الداخلي لهذا الواقع ودوره الشخصي حياله. هذا السياق الفردي والجماعي لجنبلاط ــ المشكلة، عاشه والده من قبله. فقصة لائحة مطالبه التي تبدأ بالاعتراف بالصين الشعبية مع فؤاد شهاب، معروفة ذائعة. ومثلها تبدو قصة الوليد اليوم مع المحكمة الدولية. حتى التوتر في الخطاب بين الانفتاح والانعزال سمة مشتركة بين الرجلين. فجنبلاط الأب، صاحب الطرح التقدمي الاشتراكي و«البرنامج المرحلي» ووسام لينين، هو نفسه المتحدث عن الفيدرالية في «الندوة اللبنانية». وجنبلاط الابن شبه الاممي اليوم، هو نفسه موقّع المطالبة الفدرالية الصريحة في أيار 1983.
المهم انه سنة 1975 بدا لجنبلاط الأب انه حقق قمة طموحه، عبر قيادته للشارع السني وحكومته، عن طريق ركب الموجة الفلسطينية في حينه، التي كانت تشكل القضية المركزية للوجدان السني، والرافعة التاريخية للسيطرة على النظام اللبناني في الوقت نفسه.
وبعد 30 سنة يبدو لجنبلاط الابن أنه يحقق الطموح نفسه، عبر قيادة «السنية السياسية» الحاكمة حالياً، عن طريق ركب موجة المحكمة الدولية، التي تشكل صلب الوجدان السني الراهن، والرافعة الأميركية والغربية لضمان استمرار هذا الحكم.
وقبل 3 عقود دفع الإحساس بخسارة الحلم كمال جنبلاط الى الذهاب حتى النهاية، حرباً لبنانية شاملة، أكلت كل أبنائها، وأولهم صاحب نظرية الحسم العسكري ضد المسيحيين. فهل من يتنبه في التكرار، قبل الحرب والانتحار ونحر الآخرين؟